التنشئة المسيحية لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي الأحـد الـرابـــع عشر من زمن العنصرة، الأحد 26 آب 2012

التنشئة المسيحية  لغبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي

 الأحـد الـرابـــع عشر من زمن العنصرة، الأحد 26 آب 2012

مــــــــرتــــــــــا ومــــــــــريــــــــــم

(لو10: 38-42)

زمن العنصرة هو زمن الكنيسة التي تعلن كلمة الله وتنقلها الى جميع الناس والثقافات والشعوب. وتدعو الى الاحتفال بها ليتورجياً لكونها أصبحت بشراً بشخص يسوع المسيح، المخلّص والفادي، وإلى عيش مقتضياتها الاخلاقية، فإلى قراءة الأحداث اليومية على ضوئها لكي تأخذ الأحداث معانيها، وتُلهم قراءتُها المواقف والمبادرات. يعلّمنا هذا الانجيل أن كلمة الله تبقى المنطلق الملهِم لنشاطاتنا اليوم، وهو ما عناه الرب يسوع بقوله لمرتا أنَّ أختها “مريم اختارت النصيب الافضل”(لو10: 42)

أولاً، شرح نصّ الانجيل

من إنجيل القديس لوقا 10: 38-42

فيمَا (كَانَ يَسوعُ و تلاميذهُ) سَائِرين، دَخَلَ يَسُوعُ إِحْدَى ٱلقُرَى، فٱسْتَقْبَلَتْهُ في بَيتِهَا ٱمْرَأَةٌ ٱسْمُها مَرْتاوَكانَ لِمَرْتَا أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَم. فَجَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَي ٱلرَّبِّ تَسْمَعُ كَلامَهُ. أَمَّا مَرْتَا فَكانَتْ مُنْهَمِكَةً بِكَثْرَةِ ٱلخِدْمَة، فَجَاءَتْ وَقَالَتْ: “يَا رَبّ، أَمَا تُبَالي بِأَنَّ أُخْتِي تَرَكَتْنِي أَخْدُمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُسَاعِدَنِي”! فَأَجَابَ ٱلرَّبُّ وَقَالَ لَهَا: “مَرْتا، مَرْتا، إِنَّكِ تَهْتَمِّينَ بِأُمُورٍ كَثِيرَة، وَتَضْطَرِبِين! إِنَّمَا ٱلمَطْلُوبُ وَاحِد! فَمَرْيَمُ ٱخْتَارَتِ ٱلنَّصِيبَ ٱلأَفْضَل، وَلَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا”

يسوع في بيت مرتا ومريم، شقيقتَي لعازار. ينال تكريمَين: مرتا تنهمك في واجبات الضيافة الشرقية؛ فإكرام الضيف عندنا من المقدسات والكرامة والكرم. ومريم أختها تجلس عند قدمي يسوع تسمع كلامه؛ فإكرام الضيف أن نسمع أخباره وأقواله. وبهذا تتساوى الأختان

1. ولكن اعتراض مرتا على مريم لدى يسوع والطلب إليه أن تكفّ مريم عن سماعه لتساعدها في خدمة الضيافة، كشف يسوع بجوابه أن الأساس في الحياة من أجل حسن الاعمال والنشاطات سماع كلام الله. وسمّاه “المطلوب الواحد” عندما قال لمرتا: “مرتا مرتا، إنك تهتمين بأمور كثيرة وتضطربين! لكن المطلوب واحد”(لو10: 41-42)

فكلام الله يُنير واقعات الحياة، وطريقة العمل، ويُلهم أخذ المواقف، واتخاذ المبادرات، ويلقي الضوء على كل الوجود البشري واحداث الحياة اليومية، ومجرى التاريخ. وكلام الله يعطي معنىً وقيمة لأعمالنا ومواقفنا والمبادرات؛ ويجعلنا ندرك أن الجميع وكل تاريخ البشرية خاضعون لحكم الله؛ ويذكّرنا بالتالي أن كل لحظة من وجودنا مُهمّة وينبغي أن نعيشها بعمق، لأن كل واحد منّا سيؤدي حساباً عن حياته الخاصة، وعن مدى عيشه مقتضيات كلمة الله وما تدعونا إليه من التزام في العالم، ومن مسؤولية الشهادة لمحبة المسيح، سيد التاريخ، متمّمين الخير ومحققين العدالة وصانعين المصالحة والسلام(الارشاد الرسولي: كلمة الرب، 99)

2. قول يسوع عن مريم الجالسة عند قدميه تسمع كلامه أنها اختارت النصيب الافضل(لو10: 42)، لا يقلّل من قيمة انهماك مرتا بواجبات الضيافة. فالقيام بالواجب عمل مسؤول يدعو إليه كل التعليم الالهي. بل أراد يسوع أن يعطي القيام بالواجب والعمل دفعهاً ومعنىً، بحيث إنه يجسّد بالفعل كلام الله المعلَن بالقول. في الافعال نشهد أننا قبلنا كلام الله، ما يعني أن بين إعلان كلام الله وشهادة الحياة المسيحية يوجد رباط عضوي. من الضروري نقل ما يقول لنا الرب من جهة، وإداء شهادة عيشه من جهة أخرى(كلام الرب، 97). هذا هو التكامل بين سماع كلام يسوع من قبل مريم وانهماك مرتا بالخدمة. من هنا شعار القديس مبارك في الحياة الرهبانية: صلاة وعمل

الاعمال تولد من كلمة الله وبالمقابل تعطي الاعمالُ المصداقية لإعلاننا هذه الكلمة. ولهذا قيل: “عالم اليوم يحتاج إلى شهود أكثر منه إلى معلمين”. هذا القول لا يعني الاستغناء عن المعلمين، بل دعوة إلى ترجمة التعليم بالافعال. فكلمة الله التي تعلّمها الكنيسة أنما تعطي دفعاً لجهود الانسان من أجل جعل العالم أكثر عدالة وأُخوّة كما تعطي العلاقات بين الناس استقامة واخلاصاً، وتشجّع على التنديد، من دون مواربة، بالظلم والانقسامات وعدم المساواة(كلمة الرب، 100)

3. كل هذا يبيّن قيمة وجود المسيحيين في لبنان وبلدان الشرق الاوسط، حيث هم مواطنون أصليون واصيلون. وهذه هي ثقافتهم التي تعطي المبرّر والمعنى لوجودهم الذي لا يمكن الاستغناء عنه، ويعبِّر عنه خادم الله البابا بولس السادس بقوله: “إن غاية الوجود المسيحي الملتزم بإنجيل المسيح هي تحديد معايير الحكم على الامور وفقاً للشريعة الاخلاقية التي تميّز بين ما هو خير وما هو شر، ما هو حق وما هو باطل، ما هو عدل وما هو ظلم؛ وإبراز القيَم الحاسمة، والنقاط الايجابية، وخطوط التفكير، وينابيع الالهام، ونوعية الحياة الانسانية، بحيث ينسجم الكل مع كلمة الله وتصميمه الخلاصي”(راجع الارشاد الرسولي: كلمة الرب، 100)

هذا يعني أن الوجود المسيحي ضرورة أساسية لمجتمعاتنا المشرقية، التي باتت تسودها شريعة العنف والحرب والانقسام والظلم، وشريعة القتل والبغض، وشريعة الانحطاط والتراجع على المستوى الحضاري والاخلاقي. الوجود المسيحي الملتزم بثقافة كلمة الله التي تعني “انجيل الله للإنسان”، في لبنان وبلدان الشرق الاوسط، من شأنه أن يُلهم المتلزمين بالعمل السياسي والاجتماعي، بحيث يصبح عملهم في العالم بحثاً عن الخير الحقيقي لجميع المواطنين، واحتراماً لكرامة كل الاشخاص وتعزيزاً لها بتأمين حقوقهم الاساسية

4. ليس للكنيسة رسالة مباشرة لخلق مجتمع أكثر عدالة، بل من واجبها التدخل في المسائل الاخلاقية المتعلّقة بخير الاشخاص والشعوب. ولكن يعود إلى المسيحيين العلمانيين، الذين تثقّفوا في مدرسة الانجيل، أن يتدخّلوا مباشرة في العمل الاجتماعي السياسي، مطبّقين مبادئ عقيدة الكنيسة الاجتماعية(كلمة الرب، 100). ويعود إليهم، بحكم هذه الثقافة، أن يعزّزوا الحقوق الانسانية لجميع الناس ويدافعوا عنها، لكون هذه الحقوق منبثقة من الشريعة الطبيعية المطبوعة في قلب الانسان. وبهذه الصفة، هي حقوق عامّة لا يمكن انتهاكها او حجبها وإهمالها، لكونها وحدها الضامنة لكرامة الشخص البشري، وإقراراً بها، وتعزيزاً عالمياً لها(المرجع نفسه، 101)

نحن ندعو إلى هذ “الربيع المسيحي” من اجل البلوغ إلى “الربيع العربي” المنشود

5. ينتظر اللبنانيون ومعهم العالم العربي، زيارة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر إلى لبنان من 14 الى 16 أيلول 2012. سيوقّع الارشاد الرسولي الخاص بالشرق الاوسط، الذي نعتبره عنصرة جديدة، بمعنى أنه يحمل لنا “ما يقول الروح للكنيسة في لبنان وبلدان الشرق الاوسط”، وسيكون الدافع إلى تحقيق ربيع مسيحي يساهم مساهمة كبيرة في تحقيق “الربيع العربي”

إن اللجنة التحضيرية للزيارة هيّأت برنامجاً استعدادياً لاستقبال قداسة البابا قد عمّمه البطاركة على كنائسهم. ندعو الالتزام به، والاستعداد لاستقبال قداسته بالشكل اللائق بقيمة الضيف الكبير، وبقيمة زيارته وما تحمل من امال وآفاق جديدة

*      *     *

ثانياً، جمعية السينودس العادية الثالثة عشرة: الاعلان الجديد للانجيل من اجل نقل الايمان المسيحي

الفصل الثاني من أداة العمل يتناول زمن الانجلة الجديدة، فيما الرسالة والارسال الالهي ما زالتا هما أياهما: “إذهبوا إلى العالم كله، واعلنوا الانجيل للخليقة كلها”(مر16: 15)

إنَّ الزمن الذي يقتضي انجلة جديدة تفرضه التحولات الجديدة على المستوى الثقافي والاجتماعي. لهذه التحولات نتائج إيجابية، إذ شكّلت خيراً كبيراً على صعيد توسّع آفاق الثقافة ونمو الانسان في كثير من مساحات المعرفة. ولكن لها ايضاً نتائج أعادت النظر في سلّم القيم وبعض أسس الحياة المشتركة، وأثّرت بالعمق على إيمان الاشخاص بإلهٍ خالق وبعنايته وبسرّ يسوع المسيح كمخلّص وحيد، وعلى مفاهيم الولادة والموت والعيش في حضن عائلة، والرجوع إلى قاعدة شريعة أخلاقية طبيعية

هذه التحولات تقتضي من الكنيسة أن تعطي جواباً عبر انجلة جديدة  تتطلب التجديد في طريقة إعلان الانجيل، ولاسيما إلى الذين يعيشون في مجتمعات اجتاحتها العلمنة وهي في الاصل مسيحية(الفقرات 41-44)

ماذا تعني الانجلة الجديدة؟

الانجلة هي اياها إعلان انجيل الله للإنسان الذي تجلّى في شخص يسوع المسيح وأقواله وافعاله، لكي بالإيمان يبلغ كل انسان إلى لقاء شخصي مع المسيح، ويدخل في شركة مع الله الواحد والثالوث، وينال الحياة الابدية

هي جديدة بحرارتها واساليبها وطرقها وتعبيرها؛ وجديدة بالدفع الجديد الذي تعطيه الكنيسة لدعوتها الروحية والرسالية، وبالطاقات والسبل التي تعطيها للمسيحيين لكي يتجذّروا بقوة في الاتحاد بالمسيح القائم من الموت، ويقدّموا للناس اختبارهم الجديد للقائهم الشخصي والوجداني بالمسيح؛ وجديدة في قدرة الكنيسة على أن تعيش بنوعٍ جديد اختبارها الجماعي للإيمان ولإعلان الانجيل وسط الاوضاع الاجتماعية والثقافية الجديدة التي ظهرت في عشرات السنين الاخيرة والتي سمّيَت بالعولمة؛ وجديدة باندفاع الكنيسة نحو جمع طاقاتها الروحية والالتزام في إحياء جديد لإيمانها وواجبها في إعلان الانجيل

وبكلمة، إن صفة “جديدة” يوجبها الواقع الثقافي والاجتماعي الذي تغيّر، وتتصل بحاجة الكنيسة إلى إيجاد طاقة وإرادة وطراوة وقدرة في طريقة عيشها للإيمان ونقله”(الفقرات 45-49)

*      *     *

صلاة

أيها الرب يسوع، لأنك أنت كلمة الله، أصبحت فادي الانسان ومخلّص العالم، ومررت في دنيانا تصنع الخير. أعطنا أن نسمع أولاً كلمتك الانجيلية، لكي نُحسن العمل والموقف والمسلك. “فكلامك مصباح لخطاي ونور لسبيلي”. علمنا أن نجلس كل يوم في مدرسة انجيلك مثل مريم، وأن نلتزم واجب خدمة إخوتنا وأخواتنا مثل مرتا، فتكون كلمة الله موجِّهة لأعمالنا، وأعمالنا الصالحة شهادة لكلمتك. ألهم بأنوار روحك القدوس الكنيسة، في زمن التحولات الثقافية والاجتماعية، لكي تجد الحرارة والسبل والنهج والتعبير من اجل الانطلاق بأنجلة جديدة تقود الجميع إلى الشركة مع الله الآب والابن والروح القدس، وإلى رفع نشيد المجد والتسبيح له إلى الأبد، آمين

*     *     *

شاهد أيضاً

رسالة قداسة البابا فرنسيس

في مناسبة اليوم العالمي الثّامن والخمسين لوسائل التّواصل الاجتماعيّة الذّكاء الاصطناعيّ وحكمة القلب:للتّواصل البشريّ الكامل …

رسالة قداسة البابا فرنسيس

في مناسبة اليوم العالمي الثّاني والثّلاثين للمريض 11 شباط/فبراير 2024“لا يَحسُنُ أَن يَكونَ الإِنسانُ وَحدَه” …